سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة ابن ثابت، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، فقال عامر: هم الكذبة، وحلف على ذلك وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية وفيها {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}.
الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ابتداء وخبر. ومذهب سيبويه أن التقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف، كما قال بعضهم:
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
وقال محمد بن يزيد: ليس في الكلام محذوف، والتقدير، والله أحق أن يرضوه ورسوله، على التقديم والتأخير.
وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام، كما تقول: ما شاء الله وشيت. قال النحاس: قول سيبويه أولاها، لأنه قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهي عن أن يقال: ما شاء الله وشيت، ولا يقدر في شيء تقديم ولا تأخير، ومعناه صحيح. قلت: وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه، ألا ترى أنه قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [النساء 80]. وكان الربيع ابن خيثم إذا مر بهذه الآية وقف، ثم يقول: حرف وأيما حرف فوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير.
الثالثة: قال علماؤنا: تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل حسب ما تقدم.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق». وقد مضى القول في الايمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة.


{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} يعني المنافقين. وقرأ ابن هرمز والحسن {تعلموا} بالتاء على الخطاب. {أَنَّهُ} في موضع نصب بيعلموا، والهاء كناية عن الحديث. {من يحادد الله} في موضع رفع بالابتداء. والمحادة: وقوع هذا في حد وذاك في حد، كالمشاقة. يقال: حاد فلان فلانا أي صار في حد غير حده. {فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ} يقال: ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ، فكان يجب أن يكون {فإن} بكسر الهمزة. وقد أجاز الخليل وسيبويه {فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ} بالكسر. قال سيبويه: وهو جيد وأنشد:
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل *** قلائص تخدي في طريق طلائح
وأني إذا ملت ركابي مناخها *** فإني على حظي من الأمر جامح
إلا أن قراءة العامة {فأن} بفتح الهمزة. فقال الخليل أيضا وسيبويه: إن {أن} الثانية مبدلة من الأولى. وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قاله الجرمي، قال: إن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام، ونظيره {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 5]. وكذا {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها} [الحشر: 17].
وقال الأخفش: المعنى فوجوب النار له. وأنكره المبرد وقال: هذا خطأ من أجل إن {أن} المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر.
وقال علي بن سليمان: المعنى فالواجب أن له نار جهنم، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف.
وقيل: التقدير فله أن له نار جهنم. فإن مرفوعة بالاستقرار على إضمار المجرور بين الفاء وأن.


{يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ} خبر وليس بأمر. ويدل على أنه خبر أن ما بعده {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ} لأنهم كفروا عنادا.
وقال السدي: قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الآية. {يَحْذَرُ} أي يتحرز.
وقال الزجاج: معناه ليحذر، فهو أمر، كما يقال: يفعل ذلك.
الثانية قوله تعالى: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} {أَنْ} في موضع نصب، أي من أن تنزل. ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف من. ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر، لان سيبويه أجاز: حذرت زيدا، وأنشد:
حذر أمورا لا تضير وآمن *** ما ليس منجيه من الاقدار
ولم يجزه المبرد، لان الحذر شيء في الهيئة. ومعنى {عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {سورة} في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساويهم ومثالبهم، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، كما تقدم أول السورة.
وقال الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته.
الثالثة: قوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِؤُا} هذا أمر وعيد وتهديد. {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي مظهر {ما تَحْذَرُونَ} ظهوره. قال ابن عباس: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة، لان أولاد هم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا. فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ}.
وقيل: إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحوالهم وأسماء هم لا أنها نزلت في القرآن، ولقد قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وهو نوع إلهام. وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه. وكان فيهم من يعرف صدقه ومعاند.

15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22